بسم الله الرحمن الرحيم
الشاعر الشهيد
عبد الله بن رواحه
إنه الصحابي الجليل عبد الله بن رواحه الخزرجى الأنصاري -رضي الله عنه- وكان يكنى
أبا محمد. وقد حضر بيعتي العقبة الأولى والثانية، وشهد بدرًا وأحدًا والخندق، وكان
أحد شعراء النبي ( الثلاثة، وكان بين يدي النبي ( في عمرة القضاء يقول:
خَلُّوا بني الكُفَّار عَنْ سَبيلِهِ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ وَيُذْهِلُ الخَلِيلَ عَنْ خَلِيـله
فنادي عليه عمر وقال له: في حرم الله وبين يدي رسول الله ( تقول هذا الشعر؟ فقال
له النبي (: (خَلِّ عنه يا عمر، فوالذي نفسي بيده لكلامه أشد عليهم من وَقْعِ
النبل) [أبو يعلي].
وكان عبد الله عابدًا محبًا لمجالس العلم والذِّكر، فيروى أنه كان إذا لقي رجلا من
أصحابه قال له: تعال نؤمن بربنا ساعة. وذات مرة سمعه أحد الصحابة يقول ذلك، فذهب
إلى النبي (، وقال: يا رسول الله، ألا ترى ابن رواحه، يرغب عن إيمانك إلى إيمان
ساعة؟! فقال له النبي (: (رحم الله ابن رواحه إنه يحب المجالس التي تتباهى بها
الملائكة) [أحمد].
وذات مرة ذهب عبد الله إلى المسجد والنبي ( يخطب، وقبل أن يدخل سمع النبي ( يقول:
(اجلسوا) فجلس مكانه خارج المسجد حتى فرغ النبي ( من خطبتيه، فبلغ ذلك النبي (،
فقال له: (زادك الله حرصًا على طواعية الله ورسوله) [البيهقي].
وكان كثير الخوف والخشية من الله، وكان يبكي كثيرًا، ويقول: إن الله تعالى قال:
{وإن منكم إلا واردها} [مريم: 17]، فلا أدري أأنجو منها أم لا؟
وعُرفَ عبد الله بن رواحه بكثرة الصيام حتى في الأيام الشديدة الحر، يقول أبو
الدرداء -رضي الله عنه- خرجنا مع النبي ( في بعض أسفاره في يوم حار حتى وضع الرجل
يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا النبي ( وابن رواحه.
ولما نزل قول الله تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد
يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون} [224-226] أخذ عبد الله في البكاء لأنه كان
شاعرًا يقول الشعر، ويدافع به عن الإسلام والمسلمين، وقال لنفسه: قد علم الله أني
منهم، وكان معه كعب بن مالك، وحسان بن ثابت، وهم شعراء الرسول ( الثلاثة، فنزل قول
الله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرًا وانتصروا من بعد
ما ظلموا} [_الشعراء: 227]. ففرح عبد الله بذلك، واستمر في نصرة المسلمين بشعره.
وذات يوم أنشد عبد الله من شعره بين يدي النبي (، وقال:
إِنِّي تَفَرَّسْتُ فِيكَ الخَيْــــرَ أَعْرِفُـــهُ
وَاللهُ يَعْرِفُ أنْ ما خَانَنِي الخَبَــــــرُ
أَنْتَ النبي وَمَنْ يُحْــرَمْ شَفَاعَتُـــــهُ
يَوْمَ الحِسَابِ لَقَدْ أَزْرَى بِـهِ القَــــدَرُ
فَثَّبَتَ اللهُ مَا آتَـــاكَ مـِنْ حـُسْـــنٍ
تَثَبِيتَ مَــــوسَى وَنَصْرًا كَالذي نَصَروا
فدعا له الرسول (: (وإياك فثبَّتَكَ الله) [ابن سعد].
وكما نصر عبد الله الإسلام في ميدان الكلمة، فقد نصره باقتدار في ميدان الحرب
والجهاد بشجاعته وفروسيته.
وكان ابن رواحه أمينًا عادلاً، وقد أرسله النبي ( إلى يهود خيبر؛ ليأخذ الخراج
والجزية مما في أراضيهم، فحاولوا إعطاءه رشوة؛ ليخفف عنهم الخراج، فقال لهم: يا
أعداء الله، تطعموني السحت؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إليَّ، ولأنتم أبغض
إليَّ من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم
(أي أتعامل معكم بالعدل).
وفي شهر جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة، علم الرسول ( أن الروم قد حشدوا
جيوشهم استعدادًا للهجوم على المسلمين، فأرسل النبي ( جيشًا إلى حدود الشام عدده
ثلاثة آلاف مقاتل؛ ليؤمِّن الحدود الإسلامية من أطماع الروم، وجعل زيد بن حارثة
أميرًا على الجيش، وقال لهم: (إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن
رَواحة) [البخاري].
فلما وصل جيش المسلمين إلي حدود الشام، علموا أن عدد جيش الروم مائتا ألف فارس،
فقالوا: نكتب إلى النبي ( ليرسل إلينا مددًا من الرجال، أو يأمرنا أن نرجع أو أي
أمر آخر، فقال لهم ابن رواحه: يا قوم، والله إن التي تكرهون هي التي خرجتم تطلبون،
إنها الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، إنما نقاتلهم بهذا الدين
الذي أكرمنا الله به. فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور (نصر) وإما
شهادة.
فكبر المسلمون وواصلوا مسيرتهم حتى نزلوا قرية بالشام تسمى مؤتة، وفيها دارت
الحرب، وقاتل المسلمون أعداءهم قتالاً شديدًا، وأخذ زيد بن حارثة يقاتل ومعه راية
المسلمين، فاستشهد زيد، فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب، وراح يقاتل في شجاعة حتى
استشهد، فأخذ عبد الله الراية، فأحس في نفسه بعض التردد، ولكنه سرعان ما تشجع،
وراح يقاتل في شجاعة ويقول:
أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلِنَّـه طَائِعَةً أَوْ لَتُكْرهِنَّـــــــه
فَطَالَمَا قَدْ كُنْتِ مُطْمَئِنَّـة مَالِي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الجَنَّــــةْ
يَا نَفْسُ إلا تُقْتَلِى تَمُوتـي وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيـــــت
إِنْ تَفْعَلِى فَعْلَهُمَا هُدِيـتِ وَإِنْ تَأَخَّرْتِ فَقَد شُقِيــــتِ
ونال عبد الله الشهادة، ولحق بصاحبيه زيد وجعفر.
(اللهُمَ أعِيناَ على ذِكرِكَ،وشُكرِكَ ،وحُسنَ عِبَادتك .)